الأبراج وعلم الفلك-ج1
منتدى الإبداع لتلاميذ ثانوية إدريس الحريزي التأهيلية :: منتدى ثانوية إدريس الحريزي التأهيلية :: أنشطة مادة التربية الإسلامية
صفحة 1 من اصل 1
الأبراج وعلم الفلك-ج1
رصد الانسان البدائي النجوم عبر عصور طويلة. واستطاع مع مرور الزمن ملاحظة ثبات مواقعها النسبي مع وجود توافقات دورية بين ظهوراتها والتغيرات الفصلية على الأرض. ومع تطور مدنيته ومعتقداته وأساطيره بدأت تتشكل في السماء اسقاطات انسانية تمثلت في تجمعات مميزة من النجوم. واعتقد الانسان عبر كافة الثقافات أنها تمثل القوى التي تحكم الطبيعة، وأن لها تأثيراً مباشراً على حياة القبائل والشعوب، ثم نسب إليها تحديد مصير الأفراد. إن ما نسميه اليوم نجامة astrologie هو أحد نتاجات اهتمام الانسان القديم بالنجوم، ألا وهو التنبؤ بمصير البشر وتحديد الصفات الفردية لكل منهم بدراسة التأثيرات النجمية.
وتختلف النجامة كما هي معروفة اليوم عن علم الفلك اختلافاً جذرياً. فعلم الفلك هو دراسة طبيعة وحركات النجوم والكواكب والكون عموماً. ويعتبر الفلكيون أن النجامة ليست علماً وأنها غير منطقية. لكن النجامة كانت في القرن السابع عشر فرعاً من علم الفلك. والحق أن الموروث النجامي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الفلك كما أنه متجذر عميقاً في ثقافاتنا ولغاتنا كما وفي تاريخنا النفسي! ففي الموروث اللغوى العربي مثلاً يشتق فعل نَجَم من المصدر نجم، وعندما نقول إن أمراً نجم عن أمر آخر فإنما يعني ذلك أن تحققه ارتبط مع التوافق النجمي. ولا يزال هناك اليوم كثيرون ممن يمارسون النجامة ويعتقدون بها. لماذا اكتسبت النجامة مثل هذا التأثير في تاريخ الانسان؟ وكيف نشأ وتطور موروثها؟
ما هو الطالع؟
أما الطالع النجامي فهو أساس كل نجامة. فهو يصف التشكيلات السماوية لحظة ولادة فرد ما. ويُحدَّد هذا التشكيل بوضعيات نوعين من النجوم على القبة السماوية، الثابتة أي النجوم، والمتحركة أي الكواكب. فالدائرة البروجية تقسم إلى 12 جزء كل منها محدد ببرج، بحيث تقسم كل منطقة إلى ثلاثة أجزاء أيضاً. فعند ولادة فرد ما تحدد الشمس، بشروقها في إحدى هذه المناطق الاثنتي عشرة، الرمز البروجي للفرد. فالطالع يتعلق بساعة الولادة تماماً: فالرمز البروجي يشتمل على نقطة الطالع في الدائرة البروجية، أي النجم الذي يشرق لحظة الولادة. وبالإضافة إلى موضع الشمس يجب أن يشتمل الطالع على موضع القمر والكواكب الثمانية بالنسبة لدائرة البروج. كذلك تؤخذ بعين الاعتبار مواضع “المنازل” أيضاً. فالمنازل تقسم القبة السماوية إلى 12 قطاع بأبعاد زاوية مختلفة بحسب الدوائر الكبرى المارة بالقطب الشمالي. ومع ذلك تطرح منظومة الاسناد هذه الاشكالية التالية: فبالنسبة للذين يولدون قرب القطب الشمالي في شهور معينة لا تظهر فيها الكواكب هناك لا يكون لهم طالع فلكي. إن الطالع بذاته وصفي بحت. ويجب بالتالي أن نميزه بوضوح عن التفسيرات التي ترافقه في النجامة. فهذا التفسير يتعلق من جهة بالنمطية النفسانية عندما نعتبر أن مواضع الكواكب والشمس والقمر التي يعطيها الطالع تحدد شخصية الفرد، ومن جهة ثانية بالتنبؤ، حيث تعتبر حركة النجوم محددة لمصير الفرد.
الاعتقاد بالنجامة
حاول منجمون كثر الاعتماد على دراسة الشخصيات التاريخية مع تحديد مواقع الكواكب والنجوم في موعد ولادة أحد هؤلاء المشاهير لإثبات صحة النجامة. ومثال ذلك شخصية نابوليون الذي يكشف وجود زحل وفقهم عند ولادته عن صعوده السريع إلى السلطة، والذي كان ليشير أيضاً إلى سقوطه السريع والحاد. ويضيف وجود القمر شكلاً مأساوياً وكارثياً لنهايته.. ويشير وجود المريخ إلى نجاحات عسكرية. والحق أن هذا العرض يوافق التشكيلات النجمية عند ولادة نابوليون كما ومراحل حياة نابوليون أيضاً. ولكن كم من الآلاف ولدوا في وقت ولادة نابوليون وكان مصيرهم مختلفاً تماماً عن مصيره؟ إن الرد العلمي على الذين يعتقدون بالنجامة سهل، لكن هل يكفي ذلك لإقناعهم بالتراجع عنها؟
تشير الاحصاءات أو الأبحاث إلى أن اهتمام الجمهور يزداد بشكل مطرد بالنجامة. فقد كشف إحصاء SOFRES عام 1982 في فرنسا أن 53 % من الفرنسيين يعتقدون أن النجامة علم. وكشف إحصاء Gallup عام 1975 أن ربع الشعب الامريكي يؤمن بالنجامة. وتصل هذه النسبة إلى الثلث بين طلاب الجامعات (70% من النساء و 50% من الرجال يطالعون بين الحين والآخر على الأقل حظهم في الجرائد والمجلات). ويعتقد باحثون كثيرون أن تفسير جماهيرية النجامة يرجع إلى نفسانية الشعوب والظروف المحيطة بها. فمعظم الذين يبحثون عن حظهم يخفون في لاوعيهم أملاً أو وعداً أو حاجة يأملون بتحققه. ويكون بعضهم غير راض عن حياته ويأمل أن يأتيه الحل لمشاكله من الغيب الذي تكشفه له عوالم النجوم. وقد يريد بعضهم تبديد الشكوك والمخاوف التي تحيط بقرار ما يريد اتخاذه. ويكون القرار بالتالي مرتكزاً على مرجع خارجي، فكأنما يريح الانسان بذلك نفسه من تحمل مسؤولية ما سينجم عن قراره.
لم تكن النجامة في القرن الثاني عشر تعتبر في التصنيف العربي للمعارف علماً بالمعنى الصحيح للكلمة. وكان ابن رشد يعتبرها فناً تخمينياً وليس علماً. إن الذين يترددون بقبول النجامة يعتقدون أنها لا تقوم على أساس علمي. وهذا صحيح رغم أن غالبية الناس لا يعرفون ما هو “العلم”. ويرى بعضهم بالمقابل أن النجامة مبنية على أسس تقنية متينة إنما لا تزال غير مثبتة. فهي تنطلق من الخيال لتطور نسقاً منطقياً. وهذا غير صحيح. والحق أن أسس النجامة ترتكز على قاعدة منطقية معقولة لكن بنيتها الناجمة عنها خاطئة وغير منطقية. ولكن ما هو التعريف الحديث للعلم والذي عليه إنما نبني نظرتنا لأنماط الفكر الأخرى ومنها النجامة؟ إن أحد المميزات الرئيسية للعلم هو اعتماده على التجربة بشكل أساسي. والتجربة العلمية هي مسألة تصاغ في إطار نظرية ما وتطرح على الطبيعة. وتكون لغة هذه المسألة في العلوم الفيزيائية هي الرياضيات أوالهندسة. فإذا كانت النجامة تستعمل الحسابات في معرفة الطالع، لكن لغتها الرياضية أبعد ما تكون عن الفكر الرياضي. وإضافة إلى ذلك فإنها لا تطرح أي تساؤل على الطبيعة لتحسين مسألة نظرية وفهم حلول مطروحة. فالنجامة ليست منظومة معرفية ولو فجة، وليس في ذلك أي إجحاف بحقها، لأنها لا تطرح موضوع بحث معرفي، وتدعي بالمقابل معرفة كاملة هي في الواقع سكونية جامدة، لأن المعرفة هي في الجوهر البحث المنفتح على الحقيقة والذي لا حدود تقيده في الاتجاه إليها. وعلى العكس من ذلك تماماً فإن مسيرة العالِم ترتكز على المنطق النقدي كما يقول كارل بوبر Karl Popper. فالعالِم يصوغ الفرضيات والتخمينات والحدوس حول الحقيقة والواقع، ويُعدّ في الوقت نفسه الاختبارات من أجل سبر هذه الحدوس وبرهانها. وهكذا فهو يتقدم بواسطة التجارب والأخطاء، وهي مسيرة لا ينتهجها أبداً المنجم.
لقد تبوّأت النجامة مركز الصدارة بين المنتجات التنجيمية الصناعية الأخرى، وذلك بسبب المكانة التي وجدتها في الصحافة والإعلام. فطرق التنجيم الأخرى مثل أوراق اللعب أو غيرها تحتاج إلى لقاء مباشر بين المنجم والزبون. أما النجامة فيمكن تعميمها إضافة إلى أنها دورية مثل الصحف والمجلات والاذاعة وغير ذلك من وسائل الاعلام. والحق أن النجاح الذي تحققه النجامة في الصحف والإذاعات لا يرجع إلى تحقق النبؤات التي تلفقها يومياً، بل إلى حاجة الإنسان للمساعدة على التأقلم مع الجو الذي فرضته الثقافة الصناعية الغربية الاستهلاكية. ويبين جان بياجيه J. Piaget أن النجامة تجعل الفرد في هذا الوسط المضطرب مركز الإهتمام طالما أن تفسير الأحداث يتمحور عليه.
والحق أن التقدم العلمي لعب دوراً كبيراً في تراجع الشعور بالطمأنينة الذي كان يهبه المعنى الديني للأفراد في الغرب. فقد أسس البناء العلمي توجهه المعرفي على التعديل المستمر وعلى قاعدة مبهمة تجاه المستقبل تحديداً. وخلق ذلك قلقاً داخلياً مقابل الصدفة والعشوائية في الطبيعة اللتين أحلهما العلم محل العناية المسيّرة لكل شيء. فالذي يبحث عن حظه في الأبراج إنما يحاول القيام بمغامرة العلم من جهة والهروب منها من جهة ثانية! فما هو بالنسبة للعلم تخميني أو ثانوي أو يجب دراسته بتفصيل دقيق وفق قوانين الاحتمالات هو بالنسبة للفرد شيء أساسي لأنه يتعلق بفردانية مصيره. إن العلم الذي جرد الطبيعة من كثير من المفاهيم التي كانت قد أُلبست لها خطأ وعن جهل جرّد أيضاً أناساً كثيرين من الجانب الذاتي للحدث، وهو في الحقيقة لم يعوضهم (وربما هذه مسؤوليته حقاً) بما يحفظ التوازن النفسي لديهم فيما هو ذاتي وحميمي وحافظ للوحدة مع الكل في آن واحد. إن هذه الحاجة إلى الإعتقاد بالنجامة تعكس في الحقيقة حاجة إلى رؤيا الوحدة التي لا تعزل الإنسان ولا تنفي عنه ذاتيته، لكن ذلك لا يعد مبرراً لهذا الإعتقاد، بل على الإنسان أن يخلق ويحقق بنفسه هذه الوحدة!
إنفصال النجامة وعلم الفلك
يرجع الانفصال الواضح بين النجامة وعلم الفلك إلى نهاية القرن السابع عشر. ومع ذلك لم تكن النجامة في العصور الماضية مندمجة كلياً بالفلك الذي كان يعنى قبل كل شيء بوضع تقويم صحيح. وكانت هذه المهمة واضحة جداً عند البابليين مع أن الشخص نفسه كان المسؤول عن الجانبين. ويمثل بطلميوس بحق هؤلاء الفلكيين والنجاميين في آن واحد. ولعل الهدف الحقيقي للنجامة والفلك كان رؤية نظام ما في حركات السماء كما وفي الحياة على الأرض بعيداً عن التدخلات العشوائية للآلهة. وقد استمر هذا المنظور كما نعلم حتى كبلر، ومعه وبخاصة مع غاليله بدأ الشرخ يتوضح ويتسع بين الجانبين، ولنقل بالأحرى إن العلم بدأ يتمايز عن الخرافة، وإن الحقيقة بدأت تفرض ذاتها بمواجهة الجهل المتوارث. وهكذا لم يعد للتفسيرات النجامية علاقة ما بكون تحكمه الهندسة الإقليدية وقانون الجذب الثقالي لنيوتن.
كانت النجامة خلال عصر النهضة مقبولة في أوروبا كلها. فقد حدد البابا جول الثاني II Jules تاريخ تنصيبه وفق تعليمات أحد المنجمين! وكانت الكنيسة الكاثوليكية قد كفت يدها عن التنجيم. كذلك حددت ملكة بريطانيا إليزابت الأولى وكانت بروتستانتية تاريخ تتويجها بحسب توصيات أحد المنجمين. ومع ذلك فقد كانت النفحة الإنسانية القوية في بداية عصر النهضة معاكسة لفكرة أن يكون الانسان خاضعاً لقوى خارجية. فشكسبير مثلاً يعبر عن بداية تساؤل حول صحة تأثير النجوم علينا على لسان كاسيوس في “يوليوس قيصر”: «الخطأ يا عزيزي بروتوس ليس خطأ النجوم بل هو قائم فينا». ومع ذلك فإن يوليوس قيصر يُقتل في المسرحية لأنه لم يأخذ على محمل الجد أحلام زوجه التنبيهية ولم ينتصح من أحد العرافين !
لكننا نجد وضوحاً أكبر لنفي صحة التنجيم عند كبلر الذي كان هو نفسه منجماً كبيراً! فعلى الرغم من أنه أحد مؤسسي علم الفلك الحديث، لكنه أمضى جزءاً كبيراً من حياته في التنجيم مثل معظم فلكيي عصره وأهمهم غاليليه وتيخو براهي. وكان كبلر قد نشأ في وسط من الخرافات ومن أب منجم أيضاً، لكنه ترك بلدته وذهب إلى الجامعة ليدرس الرياضيات، وهو يعترف بأنه لم يكن يعرف كيف يمكن أن تؤثر السماء على البشر، ويؤكد بأنه إذا كان يمكن للسماء أن تحدد بشكل ما نمطاً بشرياً عاماً لكنها يستحيل أن تتدخل في تفاصيل الحياة اليومية أو حتى المصيرية كما يدعي المنجمون.والحق أن كبلر تميز عن المنجمين برؤيته الفيزيائية الأصيلة إذ كان يبحث عن الأسس الفيزيائية لتأثير الكواكب المحتمل، وكان من جهة أخرى يقوم برصد منهجي مما قاده إلى اكتشاف قوانين حركات الكواكب. وانتهى به الأمر إلى رفض النجامة، وإن كانت المعرفة بالنسبة له ذات وجهين أحدهما رياضي وأكيد والآخر فيزيائي وتخميني. وقد قبل كبلر منظومة كوبرنيكوس التي تدور وفقها الأرض حول الشمس. ومنذ ذلك الحين كان على المنجمين أن يقبلوا بأن الأساس الذي بنيت عليه تصوراتهم للعالم خاطئ تماماً.
وهكذا تحول التنجيم إلى نوع من التنبؤات الآنية لحياة الأفراد اليومية، أو إلى ضرب من الإحتيال حيث ظهر من ادعى بقدرته على تحديد السارق مثلاً إذا أمكن معرفة ساعة السرقة بالضبط أو شروط أخرى كانت مستحيلة إنما كافية لتدخل المال إلى جيب المنجم! ومن الأسئلة التي كانت تطرح على المنجمين ولم يكونوا ليجدوا حرجاً في الاجابة عليها نذكر أمثلة أخذت من مذكرات أحد أشهر المنجمين في انكلترا (وليام ليلي William Lilly مذكرات 1654-1656): «هل ضروري أن يذهب ابني إلى الحرب؟ وهل سيرجع سالماً؟ هل حسن أن أترك منزلي وأذهب لتعلم مهنة؟ وهل سأنجح فيها؟ وهل سيشنق زوجي بسبب الإثم الذي اقترفه؟ وهل ستبلى زوجتي من مرضها؟…»كان أحد أهم المواضيع التي لجأ إليها المنجمون ليستمروا في مهنتهم هو اكتشاف الجناة في مختلف الجرائم والجنح. وقد وضع المنجم ليلي مؤلفاً شرح فيه بالتفصيل هذه الناحية، وأكد فيه أنه يستطيع معرفة إذا كان شيء ما قد سرق أو أنه اختفى من تلقاء ذاته! وأكد أنه يستطيع معرفة عمر السارق وجنسه وحتى لون ثيابه ومعرفة الحرف الأول من اسمه، وذلك كله من خلال مواضع وإشارات الأبراج والكواكب. لكنه كمنجم شريف كان يقول إنه لا يؤمن بالمنجمين الذي يدعون القدرة على معرفة اسم السارق كاملاً! وأحد أهم المواضيع التي كانت تجتذب الزبائن ولا زالت حتى يومنا هذا هو معرفة تاريخ الموت. وكان ليلي يطلب من طلابه الحذر في إعلان موعد وفاة الناس إذا عرفوه! والحق أن ليلي هذا كان مدركاً تماماً لخطر التنبؤات التي يمكن أن يظهر خطؤها بسهولة فيفقد سمعته بسببها، وكان ذلك حال كل متنبئ جيد يعرف كيف يحافظ على شهرته! أما المسائل التي كان يستطيع الاجابة عليها بعد دراستها بعمق فكانت كالتالي: هل يجب أن أتزوج أم لا؟ من هي أو هو الأنسب لي للزواج؟ هل هذه المرأة غنية؟ كم من الأطفال يمكن أن تنجب؟ وكان موت ليلي في إنكلترا على الأقل نهاية عهد التنجيم. وبعد موته بعشر سنوات نشر نيوتن كتابه المبادئ، ومذاك أصبح علم الفلك علماً رصدياً ورياضياً وانفصل نهائياً عن النجامة التي باتت تُعدُّ تشويهاً للعلم والحقيقة.
نهاية النجامة
شهد القرن الثامن عشر ـ عصر الأنوار ـ تراجعاً كبيراً لشعبية النجامة. وكان الفلكيون يحصدون بالمقابل شعبية متزايدة مع اكتشافاتهم المدهشة. فقد اكتشف هرشل Herschel أول كوكب شمسي جديد هو أورانوس واضعاً بذلك النجامة بمنظومتها السباعية الأجسام في مأزق حرج. والحق أن النظام البطلميوسي القديم كان قد انهار تماماً، ومع انهياره لم تكن النجامة وحدها التي عانت من المشاكل! فكافة المعتقدات القديمة كانت بشكل أو بآخر ترتكز على هذا النظام، وبانهياره سقطت مركزية الأرض ومنظومة السموات السبع والكواكب السبعة وتضعضعت كافة المنظومات العقائدية التي تقوم معرفتها الكونية على النظام البطلميوسي. وسرعان ما اكتشف كوكبان جديدان هما أورانوس وبلوتو إضافة لآلاف الكويكبات. ومع تطور التقنيات الرصدية بعد منتصف القرن العشرين بخاصة عرفنا أن كوننا ليس أوسع فقط من منظومتنا الشمسية بل ومن مجرتنا أيضاً، إذ أمكن للمرة الأولى معرفة بنى كونية هائلة لا ترى بالعين المجردة ولا تشكل مجموعتنا الشمسية فيها سوى هباءة! ولم يكن بإمكان أحد من القدماء بحال من الأحوال معرفة شيء عن هذه البنى وعن هذا الكون الذي تبين أن اتساعه وعظمته يفوقان بما لا يقاس كافة التصورات العقائدية القديمة التي كانت تنسب للآلهة، ثم عند المنجمين الجدد لله نفسه.
وكان علماء الفلك قد تجاوزوا بأرصادهم المنظومة الشمسية واكتشفوا في البداية أن هناك منظومات نجمية غير منظومتنا. فإذا كانت النجوم المزدوجة تدور حول بعضها فلم لا تؤثر على البشر أيضاً كالكواكب؟ وبالمقابل كان الفلكيون قد أثبتوا أن الشمس ليست كوكباً، وهو حال القمر أيضاً، وأن النجوم الثابتة ظاهرياً ليست كذلك في الواقع. وهكذا توالت الأسئلة على النجامة، وأهمها كان «لماذا لم تكشف المنظومة النجامية، إذا كانت متجانسة، عن خلل ولو بسيط في التنبؤات كما كان الحال بالنسبة للعلم مما أدى إلى اكتشاف الكواكب الجديدة في المجموعة الشمسية؟» وإذا كان تأثير النجوم يتعلق بقوة مجهولة فإن هذه القوة لا بد أن يضعف انتشارها عبر المسافة . أما إذا كان التأثير النجامي مستقلاً عن المسافة فلماذا لا يوجد نجامة للنجوم البعيدة والمجرات والكوازارات؟ وكانت هذه الأسئلة أشبه بسؤال ساخر يوجه للمنجمين: فلو كان موروثهم صحيحاً فلماذا لا يتنبأ أحدهم بجائزة لوتو مثلاً أو يعرف تقلبات الأسهم في البورصة ويُعلم وكيله بذلك؟ لقد شكلت الإكتشافات الفلكية حقاً ضربة قاسية ومتلاحقة للنجامة.
ومع ذلك فقد عادت النجامة للظهور في القرن التاسع عشر مع الرومانسية وعودة الحركات الباطنية، وكانت جاذبيتها هذه المرة تعتمد على القدرات الخارقة التي كانت تعد بها مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا. وهكذا تحولت النجامة إلى الجمعيات الباطنية والسرانية إنما دون إهمال الجوانب العملية للحياة كالمهنة والمال والزواج. وظهر في إنكلترا خلال هذه الفترة منجم اسمه ربتشارد موريسون Richard Morrison أسس مجلة كان من بين اهتماماتها التنبؤ بمصائر الشعوب، ويمكن أن نقرأ فيها مثلاً “إن سيف الموت المريع يتقدم نحو هذا البلد، وستحدث بلبلة في السوق المالية” إلخ.
ما هي المشاكل التي واجهتها النجامة؟ إن الطالع الفلكي هو جدول يرتكز على كون مركزه الأرض، مما يعني أن النجامة لا تزال ترتكز على النظام البطلميوسي. والحق أن النجامة لم تستطع التحول أو التأقلم مع النظام الكوبرنيكي، وهو تحول لن يعني شيئاً في المحصلة لأن المنجمين يأخذون تأثير الكواكب تبعاً لمواضعها بالنسبة للأرض المركزية. وبالمقابل، فإن إمكانية إنشاء نجامة اعتماداً على منظومات غير المنظومة البطلميوسية يظهر كم أن النجامة لا ترتكز على أسس صحيحة أو حتى متجانسة بغض النظر عن منظومة الإسناد التي تستند إليها. ومن جهة أخرى يمكن أن نتساءل عن الذين يولدون في الشمال القطبي أو في الجنوب القطبي، فهل أن غياب الأبراج في هذه المناطق خلال شهور طويلة يعني أن شخصية هؤلاء الناس لم تتطور بالنسبة للذين يولدون قرب الخطوط الأقرب إلى خط الاستواء؟ أليس من الأفضل أن نفسر اختلاف شخصية هؤلاء البشر اعتماداً على المناخ المختلف للمنطقة القطبية؟
ومن جهة أخرى، كيف سنفسر أثر الرحلات الفضائية على القواعد النجامية؟ لم يكن القائلون بتأثير الكواكب ليتخيلوا إمكانية السفر بين الكواكب والوصول إليها لا بل والنزول عليها! ولم يكن خيالهم ليتجرأ على الافتراض بإمكانية السفر عبر سمواتها السبع بل وإلى أبعد من ذلك بكثير والانفتاح على عوالم أرحب وأوسع! ترى أي أثر كان للمنازل ـ المرتبطة بالأفق الأرضي حصراً ـ على رائد الفضاء نيل أرمسترونغ Neil Armstrong عندما مشى على سطح القمر؟ وإذا أجرينا حسابات الطوالع الفلكية على القمر آخذين بعين الاعتبار تأثير الأرض فهل سيكشف ذلك عن شخصيات جديدة وغير متوقعة؟ من المرجح أن أطفالاً سيولدون في القرن القادم على القمر أو حتى على المريخ، فما سيكون طالعهم؟! وأخيراً، لو افترضنا وجود حياة عاقلة غيرنا في الكون، وهذا شبه مؤكد، فإن دائرتهم البروجية ستكون مختلفة عن دائرتنا تماماً، ومؤلفة من نجوم غير التي نراها من على الأرض. فماذا سيعني لهم عندها برج الجدي أو الجوزاء؟
يرد المنجمون والمؤيدون للنجامة على هذه الحجج كلها بأنها ظروف واعتبارات لم يأخذها المنجمون بحسبانهم، وأنه يمكن بناء مخططات تتوافق مع هذه المعطيات العلمية الجديدة! ومثالهم في ذلك أن المنجمين بعد اكتشاف أورانوس مثلاً أضافوا تأثيره إلى خرائطهم مع ملاحظة أنه يؤثر على المدى البعيد عبر أجيال متعاقبة!! والحق أن هذا الموقف يشبه إلى حد بعيد حجة الذين يدافعون عن موروث لم يعد صحيحاً فقط لأن هذا الموروث يرضي جانباً في نفوسهم هو الركون إلى الحلول الجاهزة والخوف من مواجهة المجهول وجهاً لوجه. إن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه على هؤلاء هو ما مبرر النجامة أصلاً، ولم يجب أن يضاف إليها دائماً الجديد من المكتشفات بحيث تستمر وهي لا تقوم أصلاً على أساس صحيح؟
بقلم : موسى ديب الخوري
وتختلف النجامة كما هي معروفة اليوم عن علم الفلك اختلافاً جذرياً. فعلم الفلك هو دراسة طبيعة وحركات النجوم والكواكب والكون عموماً. ويعتبر الفلكيون أن النجامة ليست علماً وأنها غير منطقية. لكن النجامة كانت في القرن السابع عشر فرعاً من علم الفلك. والحق أن الموروث النجامي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلم الفلك كما أنه متجذر عميقاً في ثقافاتنا ولغاتنا كما وفي تاريخنا النفسي! ففي الموروث اللغوى العربي مثلاً يشتق فعل نَجَم من المصدر نجم، وعندما نقول إن أمراً نجم عن أمر آخر فإنما يعني ذلك أن تحققه ارتبط مع التوافق النجمي. ولا يزال هناك اليوم كثيرون ممن يمارسون النجامة ويعتقدون بها. لماذا اكتسبت النجامة مثل هذا التأثير في تاريخ الانسان؟ وكيف نشأ وتطور موروثها؟
ما هو الطالع؟
أما الطالع النجامي فهو أساس كل نجامة. فهو يصف التشكيلات السماوية لحظة ولادة فرد ما. ويُحدَّد هذا التشكيل بوضعيات نوعين من النجوم على القبة السماوية، الثابتة أي النجوم، والمتحركة أي الكواكب. فالدائرة البروجية تقسم إلى 12 جزء كل منها محدد ببرج، بحيث تقسم كل منطقة إلى ثلاثة أجزاء أيضاً. فعند ولادة فرد ما تحدد الشمس، بشروقها في إحدى هذه المناطق الاثنتي عشرة، الرمز البروجي للفرد. فالطالع يتعلق بساعة الولادة تماماً: فالرمز البروجي يشتمل على نقطة الطالع في الدائرة البروجية، أي النجم الذي يشرق لحظة الولادة. وبالإضافة إلى موضع الشمس يجب أن يشتمل الطالع على موضع القمر والكواكب الثمانية بالنسبة لدائرة البروج. كذلك تؤخذ بعين الاعتبار مواضع “المنازل” أيضاً. فالمنازل تقسم القبة السماوية إلى 12 قطاع بأبعاد زاوية مختلفة بحسب الدوائر الكبرى المارة بالقطب الشمالي. ومع ذلك تطرح منظومة الاسناد هذه الاشكالية التالية: فبالنسبة للذين يولدون قرب القطب الشمالي في شهور معينة لا تظهر فيها الكواكب هناك لا يكون لهم طالع فلكي. إن الطالع بذاته وصفي بحت. ويجب بالتالي أن نميزه بوضوح عن التفسيرات التي ترافقه في النجامة. فهذا التفسير يتعلق من جهة بالنمطية النفسانية عندما نعتبر أن مواضع الكواكب والشمس والقمر التي يعطيها الطالع تحدد شخصية الفرد، ومن جهة ثانية بالتنبؤ، حيث تعتبر حركة النجوم محددة لمصير الفرد.
الاعتقاد بالنجامة
حاول منجمون كثر الاعتماد على دراسة الشخصيات التاريخية مع تحديد مواقع الكواكب والنجوم في موعد ولادة أحد هؤلاء المشاهير لإثبات صحة النجامة. ومثال ذلك شخصية نابوليون الذي يكشف وجود زحل وفقهم عند ولادته عن صعوده السريع إلى السلطة، والذي كان ليشير أيضاً إلى سقوطه السريع والحاد. ويضيف وجود القمر شكلاً مأساوياً وكارثياً لنهايته.. ويشير وجود المريخ إلى نجاحات عسكرية. والحق أن هذا العرض يوافق التشكيلات النجمية عند ولادة نابوليون كما ومراحل حياة نابوليون أيضاً. ولكن كم من الآلاف ولدوا في وقت ولادة نابوليون وكان مصيرهم مختلفاً تماماً عن مصيره؟ إن الرد العلمي على الذين يعتقدون بالنجامة سهل، لكن هل يكفي ذلك لإقناعهم بالتراجع عنها؟
تشير الاحصاءات أو الأبحاث إلى أن اهتمام الجمهور يزداد بشكل مطرد بالنجامة. فقد كشف إحصاء SOFRES عام 1982 في فرنسا أن 53 % من الفرنسيين يعتقدون أن النجامة علم. وكشف إحصاء Gallup عام 1975 أن ربع الشعب الامريكي يؤمن بالنجامة. وتصل هذه النسبة إلى الثلث بين طلاب الجامعات (70% من النساء و 50% من الرجال يطالعون بين الحين والآخر على الأقل حظهم في الجرائد والمجلات). ويعتقد باحثون كثيرون أن تفسير جماهيرية النجامة يرجع إلى نفسانية الشعوب والظروف المحيطة بها. فمعظم الذين يبحثون عن حظهم يخفون في لاوعيهم أملاً أو وعداً أو حاجة يأملون بتحققه. ويكون بعضهم غير راض عن حياته ويأمل أن يأتيه الحل لمشاكله من الغيب الذي تكشفه له عوالم النجوم. وقد يريد بعضهم تبديد الشكوك والمخاوف التي تحيط بقرار ما يريد اتخاذه. ويكون القرار بالتالي مرتكزاً على مرجع خارجي، فكأنما يريح الانسان بذلك نفسه من تحمل مسؤولية ما سينجم عن قراره.
لم تكن النجامة في القرن الثاني عشر تعتبر في التصنيف العربي للمعارف علماً بالمعنى الصحيح للكلمة. وكان ابن رشد يعتبرها فناً تخمينياً وليس علماً. إن الذين يترددون بقبول النجامة يعتقدون أنها لا تقوم على أساس علمي. وهذا صحيح رغم أن غالبية الناس لا يعرفون ما هو “العلم”. ويرى بعضهم بالمقابل أن النجامة مبنية على أسس تقنية متينة إنما لا تزال غير مثبتة. فهي تنطلق من الخيال لتطور نسقاً منطقياً. وهذا غير صحيح. والحق أن أسس النجامة ترتكز على قاعدة منطقية معقولة لكن بنيتها الناجمة عنها خاطئة وغير منطقية. ولكن ما هو التعريف الحديث للعلم والذي عليه إنما نبني نظرتنا لأنماط الفكر الأخرى ومنها النجامة؟ إن أحد المميزات الرئيسية للعلم هو اعتماده على التجربة بشكل أساسي. والتجربة العلمية هي مسألة تصاغ في إطار نظرية ما وتطرح على الطبيعة. وتكون لغة هذه المسألة في العلوم الفيزيائية هي الرياضيات أوالهندسة. فإذا كانت النجامة تستعمل الحسابات في معرفة الطالع، لكن لغتها الرياضية أبعد ما تكون عن الفكر الرياضي. وإضافة إلى ذلك فإنها لا تطرح أي تساؤل على الطبيعة لتحسين مسألة نظرية وفهم حلول مطروحة. فالنجامة ليست منظومة معرفية ولو فجة، وليس في ذلك أي إجحاف بحقها، لأنها لا تطرح موضوع بحث معرفي، وتدعي بالمقابل معرفة كاملة هي في الواقع سكونية جامدة، لأن المعرفة هي في الجوهر البحث المنفتح على الحقيقة والذي لا حدود تقيده في الاتجاه إليها. وعلى العكس من ذلك تماماً فإن مسيرة العالِم ترتكز على المنطق النقدي كما يقول كارل بوبر Karl Popper. فالعالِم يصوغ الفرضيات والتخمينات والحدوس حول الحقيقة والواقع، ويُعدّ في الوقت نفسه الاختبارات من أجل سبر هذه الحدوس وبرهانها. وهكذا فهو يتقدم بواسطة التجارب والأخطاء، وهي مسيرة لا ينتهجها أبداً المنجم.
لقد تبوّأت النجامة مركز الصدارة بين المنتجات التنجيمية الصناعية الأخرى، وذلك بسبب المكانة التي وجدتها في الصحافة والإعلام. فطرق التنجيم الأخرى مثل أوراق اللعب أو غيرها تحتاج إلى لقاء مباشر بين المنجم والزبون. أما النجامة فيمكن تعميمها إضافة إلى أنها دورية مثل الصحف والمجلات والاذاعة وغير ذلك من وسائل الاعلام. والحق أن النجاح الذي تحققه النجامة في الصحف والإذاعات لا يرجع إلى تحقق النبؤات التي تلفقها يومياً، بل إلى حاجة الإنسان للمساعدة على التأقلم مع الجو الذي فرضته الثقافة الصناعية الغربية الاستهلاكية. ويبين جان بياجيه J. Piaget أن النجامة تجعل الفرد في هذا الوسط المضطرب مركز الإهتمام طالما أن تفسير الأحداث يتمحور عليه.
والحق أن التقدم العلمي لعب دوراً كبيراً في تراجع الشعور بالطمأنينة الذي كان يهبه المعنى الديني للأفراد في الغرب. فقد أسس البناء العلمي توجهه المعرفي على التعديل المستمر وعلى قاعدة مبهمة تجاه المستقبل تحديداً. وخلق ذلك قلقاً داخلياً مقابل الصدفة والعشوائية في الطبيعة اللتين أحلهما العلم محل العناية المسيّرة لكل شيء. فالذي يبحث عن حظه في الأبراج إنما يحاول القيام بمغامرة العلم من جهة والهروب منها من جهة ثانية! فما هو بالنسبة للعلم تخميني أو ثانوي أو يجب دراسته بتفصيل دقيق وفق قوانين الاحتمالات هو بالنسبة للفرد شيء أساسي لأنه يتعلق بفردانية مصيره. إن العلم الذي جرد الطبيعة من كثير من المفاهيم التي كانت قد أُلبست لها خطأ وعن جهل جرّد أيضاً أناساً كثيرين من الجانب الذاتي للحدث، وهو في الحقيقة لم يعوضهم (وربما هذه مسؤوليته حقاً) بما يحفظ التوازن النفسي لديهم فيما هو ذاتي وحميمي وحافظ للوحدة مع الكل في آن واحد. إن هذه الحاجة إلى الإعتقاد بالنجامة تعكس في الحقيقة حاجة إلى رؤيا الوحدة التي لا تعزل الإنسان ولا تنفي عنه ذاتيته، لكن ذلك لا يعد مبرراً لهذا الإعتقاد، بل على الإنسان أن يخلق ويحقق بنفسه هذه الوحدة!
إنفصال النجامة وعلم الفلك
يرجع الانفصال الواضح بين النجامة وعلم الفلك إلى نهاية القرن السابع عشر. ومع ذلك لم تكن النجامة في العصور الماضية مندمجة كلياً بالفلك الذي كان يعنى قبل كل شيء بوضع تقويم صحيح. وكانت هذه المهمة واضحة جداً عند البابليين مع أن الشخص نفسه كان المسؤول عن الجانبين. ويمثل بطلميوس بحق هؤلاء الفلكيين والنجاميين في آن واحد. ولعل الهدف الحقيقي للنجامة والفلك كان رؤية نظام ما في حركات السماء كما وفي الحياة على الأرض بعيداً عن التدخلات العشوائية للآلهة. وقد استمر هذا المنظور كما نعلم حتى كبلر، ومعه وبخاصة مع غاليله بدأ الشرخ يتوضح ويتسع بين الجانبين، ولنقل بالأحرى إن العلم بدأ يتمايز عن الخرافة، وإن الحقيقة بدأت تفرض ذاتها بمواجهة الجهل المتوارث. وهكذا لم يعد للتفسيرات النجامية علاقة ما بكون تحكمه الهندسة الإقليدية وقانون الجذب الثقالي لنيوتن.
كانت النجامة خلال عصر النهضة مقبولة في أوروبا كلها. فقد حدد البابا جول الثاني II Jules تاريخ تنصيبه وفق تعليمات أحد المنجمين! وكانت الكنيسة الكاثوليكية قد كفت يدها عن التنجيم. كذلك حددت ملكة بريطانيا إليزابت الأولى وكانت بروتستانتية تاريخ تتويجها بحسب توصيات أحد المنجمين. ومع ذلك فقد كانت النفحة الإنسانية القوية في بداية عصر النهضة معاكسة لفكرة أن يكون الانسان خاضعاً لقوى خارجية. فشكسبير مثلاً يعبر عن بداية تساؤل حول صحة تأثير النجوم علينا على لسان كاسيوس في “يوليوس قيصر”: «الخطأ يا عزيزي بروتوس ليس خطأ النجوم بل هو قائم فينا». ومع ذلك فإن يوليوس قيصر يُقتل في المسرحية لأنه لم يأخذ على محمل الجد أحلام زوجه التنبيهية ولم ينتصح من أحد العرافين !
لكننا نجد وضوحاً أكبر لنفي صحة التنجيم عند كبلر الذي كان هو نفسه منجماً كبيراً! فعلى الرغم من أنه أحد مؤسسي علم الفلك الحديث، لكنه أمضى جزءاً كبيراً من حياته في التنجيم مثل معظم فلكيي عصره وأهمهم غاليليه وتيخو براهي. وكان كبلر قد نشأ في وسط من الخرافات ومن أب منجم أيضاً، لكنه ترك بلدته وذهب إلى الجامعة ليدرس الرياضيات، وهو يعترف بأنه لم يكن يعرف كيف يمكن أن تؤثر السماء على البشر، ويؤكد بأنه إذا كان يمكن للسماء أن تحدد بشكل ما نمطاً بشرياً عاماً لكنها يستحيل أن تتدخل في تفاصيل الحياة اليومية أو حتى المصيرية كما يدعي المنجمون.والحق أن كبلر تميز عن المنجمين برؤيته الفيزيائية الأصيلة إذ كان يبحث عن الأسس الفيزيائية لتأثير الكواكب المحتمل، وكان من جهة أخرى يقوم برصد منهجي مما قاده إلى اكتشاف قوانين حركات الكواكب. وانتهى به الأمر إلى رفض النجامة، وإن كانت المعرفة بالنسبة له ذات وجهين أحدهما رياضي وأكيد والآخر فيزيائي وتخميني. وقد قبل كبلر منظومة كوبرنيكوس التي تدور وفقها الأرض حول الشمس. ومنذ ذلك الحين كان على المنجمين أن يقبلوا بأن الأساس الذي بنيت عليه تصوراتهم للعالم خاطئ تماماً.
وهكذا تحول التنجيم إلى نوع من التنبؤات الآنية لحياة الأفراد اليومية، أو إلى ضرب من الإحتيال حيث ظهر من ادعى بقدرته على تحديد السارق مثلاً إذا أمكن معرفة ساعة السرقة بالضبط أو شروط أخرى كانت مستحيلة إنما كافية لتدخل المال إلى جيب المنجم! ومن الأسئلة التي كانت تطرح على المنجمين ولم يكونوا ليجدوا حرجاً في الاجابة عليها نذكر أمثلة أخذت من مذكرات أحد أشهر المنجمين في انكلترا (وليام ليلي William Lilly مذكرات 1654-1656): «هل ضروري أن يذهب ابني إلى الحرب؟ وهل سيرجع سالماً؟ هل حسن أن أترك منزلي وأذهب لتعلم مهنة؟ وهل سأنجح فيها؟ وهل سيشنق زوجي بسبب الإثم الذي اقترفه؟ وهل ستبلى زوجتي من مرضها؟…»كان أحد أهم المواضيع التي لجأ إليها المنجمون ليستمروا في مهنتهم هو اكتشاف الجناة في مختلف الجرائم والجنح. وقد وضع المنجم ليلي مؤلفاً شرح فيه بالتفصيل هذه الناحية، وأكد فيه أنه يستطيع معرفة إذا كان شيء ما قد سرق أو أنه اختفى من تلقاء ذاته! وأكد أنه يستطيع معرفة عمر السارق وجنسه وحتى لون ثيابه ومعرفة الحرف الأول من اسمه، وذلك كله من خلال مواضع وإشارات الأبراج والكواكب. لكنه كمنجم شريف كان يقول إنه لا يؤمن بالمنجمين الذي يدعون القدرة على معرفة اسم السارق كاملاً! وأحد أهم المواضيع التي كانت تجتذب الزبائن ولا زالت حتى يومنا هذا هو معرفة تاريخ الموت. وكان ليلي يطلب من طلابه الحذر في إعلان موعد وفاة الناس إذا عرفوه! والحق أن ليلي هذا كان مدركاً تماماً لخطر التنبؤات التي يمكن أن يظهر خطؤها بسهولة فيفقد سمعته بسببها، وكان ذلك حال كل متنبئ جيد يعرف كيف يحافظ على شهرته! أما المسائل التي كان يستطيع الاجابة عليها بعد دراستها بعمق فكانت كالتالي: هل يجب أن أتزوج أم لا؟ من هي أو هو الأنسب لي للزواج؟ هل هذه المرأة غنية؟ كم من الأطفال يمكن أن تنجب؟ وكان موت ليلي في إنكلترا على الأقل نهاية عهد التنجيم. وبعد موته بعشر سنوات نشر نيوتن كتابه المبادئ، ومذاك أصبح علم الفلك علماً رصدياً ورياضياً وانفصل نهائياً عن النجامة التي باتت تُعدُّ تشويهاً للعلم والحقيقة.
نهاية النجامة
شهد القرن الثامن عشر ـ عصر الأنوار ـ تراجعاً كبيراً لشعبية النجامة. وكان الفلكيون يحصدون بالمقابل شعبية متزايدة مع اكتشافاتهم المدهشة. فقد اكتشف هرشل Herschel أول كوكب شمسي جديد هو أورانوس واضعاً بذلك النجامة بمنظومتها السباعية الأجسام في مأزق حرج. والحق أن النظام البطلميوسي القديم كان قد انهار تماماً، ومع انهياره لم تكن النجامة وحدها التي عانت من المشاكل! فكافة المعتقدات القديمة كانت بشكل أو بآخر ترتكز على هذا النظام، وبانهياره سقطت مركزية الأرض ومنظومة السموات السبع والكواكب السبعة وتضعضعت كافة المنظومات العقائدية التي تقوم معرفتها الكونية على النظام البطلميوسي. وسرعان ما اكتشف كوكبان جديدان هما أورانوس وبلوتو إضافة لآلاف الكويكبات. ومع تطور التقنيات الرصدية بعد منتصف القرن العشرين بخاصة عرفنا أن كوننا ليس أوسع فقط من منظومتنا الشمسية بل ومن مجرتنا أيضاً، إذ أمكن للمرة الأولى معرفة بنى كونية هائلة لا ترى بالعين المجردة ولا تشكل مجموعتنا الشمسية فيها سوى هباءة! ولم يكن بإمكان أحد من القدماء بحال من الأحوال معرفة شيء عن هذه البنى وعن هذا الكون الذي تبين أن اتساعه وعظمته يفوقان بما لا يقاس كافة التصورات العقائدية القديمة التي كانت تنسب للآلهة، ثم عند المنجمين الجدد لله نفسه.
وكان علماء الفلك قد تجاوزوا بأرصادهم المنظومة الشمسية واكتشفوا في البداية أن هناك منظومات نجمية غير منظومتنا. فإذا كانت النجوم المزدوجة تدور حول بعضها فلم لا تؤثر على البشر أيضاً كالكواكب؟ وبالمقابل كان الفلكيون قد أثبتوا أن الشمس ليست كوكباً، وهو حال القمر أيضاً، وأن النجوم الثابتة ظاهرياً ليست كذلك في الواقع. وهكذا توالت الأسئلة على النجامة، وأهمها كان «لماذا لم تكشف المنظومة النجامية، إذا كانت متجانسة، عن خلل ولو بسيط في التنبؤات كما كان الحال بالنسبة للعلم مما أدى إلى اكتشاف الكواكب الجديدة في المجموعة الشمسية؟» وإذا كان تأثير النجوم يتعلق بقوة مجهولة فإن هذه القوة لا بد أن يضعف انتشارها عبر المسافة . أما إذا كان التأثير النجامي مستقلاً عن المسافة فلماذا لا يوجد نجامة للنجوم البعيدة والمجرات والكوازارات؟ وكانت هذه الأسئلة أشبه بسؤال ساخر يوجه للمنجمين: فلو كان موروثهم صحيحاً فلماذا لا يتنبأ أحدهم بجائزة لوتو مثلاً أو يعرف تقلبات الأسهم في البورصة ويُعلم وكيله بذلك؟ لقد شكلت الإكتشافات الفلكية حقاً ضربة قاسية ومتلاحقة للنجامة.
ومع ذلك فقد عادت النجامة للظهور في القرن التاسع عشر مع الرومانسية وعودة الحركات الباطنية، وكانت جاذبيتها هذه المرة تعتمد على القدرات الخارقة التي كانت تعد بها مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا. وهكذا تحولت النجامة إلى الجمعيات الباطنية والسرانية إنما دون إهمال الجوانب العملية للحياة كالمهنة والمال والزواج. وظهر في إنكلترا خلال هذه الفترة منجم اسمه ربتشارد موريسون Richard Morrison أسس مجلة كان من بين اهتماماتها التنبؤ بمصائر الشعوب، ويمكن أن نقرأ فيها مثلاً “إن سيف الموت المريع يتقدم نحو هذا البلد، وستحدث بلبلة في السوق المالية” إلخ.
ما هي المشاكل التي واجهتها النجامة؟ إن الطالع الفلكي هو جدول يرتكز على كون مركزه الأرض، مما يعني أن النجامة لا تزال ترتكز على النظام البطلميوسي. والحق أن النجامة لم تستطع التحول أو التأقلم مع النظام الكوبرنيكي، وهو تحول لن يعني شيئاً في المحصلة لأن المنجمين يأخذون تأثير الكواكب تبعاً لمواضعها بالنسبة للأرض المركزية. وبالمقابل، فإن إمكانية إنشاء نجامة اعتماداً على منظومات غير المنظومة البطلميوسية يظهر كم أن النجامة لا ترتكز على أسس صحيحة أو حتى متجانسة بغض النظر عن منظومة الإسناد التي تستند إليها. ومن جهة أخرى يمكن أن نتساءل عن الذين يولدون في الشمال القطبي أو في الجنوب القطبي، فهل أن غياب الأبراج في هذه المناطق خلال شهور طويلة يعني أن شخصية هؤلاء الناس لم تتطور بالنسبة للذين يولدون قرب الخطوط الأقرب إلى خط الاستواء؟ أليس من الأفضل أن نفسر اختلاف شخصية هؤلاء البشر اعتماداً على المناخ المختلف للمنطقة القطبية؟
ومن جهة أخرى، كيف سنفسر أثر الرحلات الفضائية على القواعد النجامية؟ لم يكن القائلون بتأثير الكواكب ليتخيلوا إمكانية السفر بين الكواكب والوصول إليها لا بل والنزول عليها! ولم يكن خيالهم ليتجرأ على الافتراض بإمكانية السفر عبر سمواتها السبع بل وإلى أبعد من ذلك بكثير والانفتاح على عوالم أرحب وأوسع! ترى أي أثر كان للمنازل ـ المرتبطة بالأفق الأرضي حصراً ـ على رائد الفضاء نيل أرمسترونغ Neil Armstrong عندما مشى على سطح القمر؟ وإذا أجرينا حسابات الطوالع الفلكية على القمر آخذين بعين الاعتبار تأثير الأرض فهل سيكشف ذلك عن شخصيات جديدة وغير متوقعة؟ من المرجح أن أطفالاً سيولدون في القرن القادم على القمر أو حتى على المريخ، فما سيكون طالعهم؟! وأخيراً، لو افترضنا وجود حياة عاقلة غيرنا في الكون، وهذا شبه مؤكد، فإن دائرتهم البروجية ستكون مختلفة عن دائرتنا تماماً، ومؤلفة من نجوم غير التي نراها من على الأرض. فماذا سيعني لهم عندها برج الجدي أو الجوزاء؟
يرد المنجمون والمؤيدون للنجامة على هذه الحجج كلها بأنها ظروف واعتبارات لم يأخذها المنجمون بحسبانهم، وأنه يمكن بناء مخططات تتوافق مع هذه المعطيات العلمية الجديدة! ومثالهم في ذلك أن المنجمين بعد اكتشاف أورانوس مثلاً أضافوا تأثيره إلى خرائطهم مع ملاحظة أنه يؤثر على المدى البعيد عبر أجيال متعاقبة!! والحق أن هذا الموقف يشبه إلى حد بعيد حجة الذين يدافعون عن موروث لم يعد صحيحاً فقط لأن هذا الموروث يرضي جانباً في نفوسهم هو الركون إلى الحلول الجاهزة والخوف من مواجهة المجهول وجهاً لوجه. إن السؤال الحقيقي الذي يجب طرحه على هؤلاء هو ما مبرر النجامة أصلاً، ولم يجب أن يضاف إليها دائماً الجديد من المكتشفات بحيث تستمر وهي لا تقوم أصلاً على أساس صحيح؟
بقلم : موسى ديب الخوري
منتدى الإبداع لتلاميذ ثانوية إدريس الحريزي التأهيلية :: منتدى ثانوية إدريس الحريزي التأهيلية :: أنشطة مادة التربية الإسلامية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى